Image djamal_hikma1
BASMALA

الرجل الجَرِيءL'homme audacieux



الأستاذ الشيخ جمال الدين مشتح رحمه الله


كانت بيني بينه مراسلات متعددة و حميمية جدا يفوح منه عطر الأخوة الزكية التي بنيت على تقوى من الله فقد نبتت و ترعرعت في مساجد شارع الشيخ بن باديس(زقاق الحجاج)..

و لما هممت بالكتابة عنه لم أشأ الرجوع إلى تلك المراسلات لأن ذلك سينحو بي منحى العمل الأكاديمي الجاف، بل  فتشت في ذاكرتي لأكتب بحرارة العاطفة لمحات و لحظات أسجلها بقلمي عن تلك الذكريات الطيبة عن الطفل جمال و الشاب جمال و الأستاذ الشيخ جمال الدين مشتح ،و السبب ان ذاكرتي لا تحتفظ بين طياتها إلا بالذكريات الطيبة الزكية و لست أنسى كرمه و بشاشته و تسامحه بل لست انسى ابتسامته الأخاذة، التي قابلني به ذات يوم من سنة 1975 في مسجد "الخليفة" بزقاق الحجاج بمدينة الأغواط الجزائرية،

كان يومها في عداد الأطفال لم يكن يتجاوز سنه الثانية عشرة لكنه يظهر و كانه  ابن السادسة عشرة من عمره إذ كان رحمه الله منذ صغره مديد القامة ،يبدو و كأنه يناهزني سنا رغم أنني كنت أكبُره بسنوات ،


 في تلك الأيام كنت ارقب مواظبته على الصلاة في المسجد لا يفتر ولما كان منذ صغره بشوشا و اجتماعيا و جريئا فقد بادرني يوما بالسلام شادا على يدي بحرارة   مقدما لي نفسه ان اسمه جمال مشتح و يريد التعرف علي و كنت اعرف بعضا من إخوانه الكبار الذين جمعتني بهم و لفترة وجيزة المدرسة القرآنية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، فلم اجد صعوبة في التعرف على العائلة و الجذور بل لقد كنت اعرف والده، بل و جدّه رحمه الله الذي كنت و لا زلت أذكر سحنته و هيئته فقد كان يتحرك بخفة و نشاط ، تعلو سحنته نظرات فيها جدّ و كأنه في شغل دوما و قد كان فعلا رحمه الله، و بالمناسبة كان جمال شديد الاعتزاز و الافتحار به.

قلت كانت لحظات سريعة  تلك التي مكنتني من التعرف عليه فنشأت بيننا صداقة حميمة صارت وثيقة فيما بعد و قد جمع الله بيننا في أطهر بقع الأرض مسجدا : "الخليفة "و "سيدي عبد القادر" الذي كان اقرب إلى منزلنا في شارع زقاق الحجاج،
كما التقت فينا صفات مشتركة بدءا بالاسم(جمال) إلى حب المساجد ، و حب المطالعة و العلم و أهله.


صرنا نلتقي يوميا في المسجد و بعد صلاة العصر و في أيام العطل الأسبوعية و العطل المدرسية كنا نقضي الوقت كله بين المسجدين أو في محراب العلم في مكتبة جده رحمه الله 

فقد كانت مكتبة عتيقة فيها أمهات الكتب التي تركها المرحوم والذي كان إبان الاستعمار الفرنسي صاحب مكتبة كبيرة مقرها بمدينة الأغواط  شهيرة على مستوى المغرب العربي تبيع الكتب باللغة العربية و الفرنسية و المجلات المختلفة العربية  التي تأتيه من المشرق العربي و المجلات الفرنسية..و كنا نجد بين ركام الكتب المراسلات الكثيرة من العلماء و دور النشر التي تنعته بالكتبي الشهير فقد كان تاجرا نشيطا في هذا المجال.
ولقد توقفت هذه المكتبة بعد حلول الاستقلال،

و قد بدأت قصتنا مع المكتبة  في سنة 1975 و بقيت حتى زمن تخرجي من الجامعة بعد ذلك في سنة 1983..
 كانت تستهويني فيها  الكتب العتيقة و الأقلام و الأدوات المكتبية القديمة و بعض الكراريس "النوتات" و أغلفة الرسائل و الطوابع البريدية  العتيقة والتي هي من فترة الاستعمار الفرنسي ،و قد كان جمال رحمه الله يهديني الكثير منها كبعض الكناشات التي كانت خضراء داكنه اللون صفحاتها صفراء، و بعض  اليوميات القديمة ..

كان جمال رحمه الله طيب المعشر بشوشا نشيطا  كجده وخفيف الظل
وصاحب ثقافة واسعة منذ صغره نهم في المطالعة متقن للغة العربية يحسنها نطقا و كتابة ، فقد كان ينمق ويدبج رسائله بخط جميل و مقدمات رائعة كان يحفظها من مطالعاته الكثيرة في كتب التراث و  كتب الأدب العربي و منها  كتاب المقامات(لبديع)،و لا  أخفي عليكم انه كان في كثير من الأحايين يتفوق علي في فن الكتابة ، فقد كان مولعا بالكتابة الأدبية و كانت رسائله رحمه الله فنا أدبيا في حد ذاتها، و لا زلت احتفظ ببعض منها في أرشيفي الخاص ، و قد غادرت الأغواط إلى العاصمة للدراسة الجامعية في سنة 1979 و قد اشتد علينا الم الفراق فكان رحمه الله يراسلني بكثرة و يطلب مني ان احدثه عن الجامعة و يسال رحمة الله عليه عن دقائق الأمور فكان يزداد شوقا و يطلب مني الدعاء له بالالتحاق بالجامعة لكي نكون معا ..
و ذات يوم  في بداية جوان من سنة 1982، وجدته يزورني بغرفتي الجامعية في مدينة الحراش بالسكن الجامعي (بوراوي) و مكث معي  قرابة نصف شهر و قد وجدني في فترة امتحانات فكنت أذهب معه فقط إلى مسجد الحي أو  للمطعم الجامعي او يصحبني أحيانا إلى الجامعة (جامعة هواري بومدين) وقت الامتحان حيث يبقى يتجول بين ردهاتها و ينتظرني حتى أفرغ من الامتحان ،ثم نعود إلى الغرفة للمراجعة ، فكان رحمه الله يشجعني تارة و تارة أخرى يعاتبني على كثرة انهماكي في المراجعة  و كان يقول لي بالعامية (قاع هاذي قراية) ..

و ذات يوم خرج صباحا  متوجها إلى العاصمة الجزائر و قال لي سأزور المناطق التي عرفتَني عليها و أنت اقبَع في غرفتك مع المراجعة فقد ضقت من المكوث هكذا  ثم أردف قائلا لعلني جئت في فترة غير مناسبة اسمحلي.
و للأسف عندما نزل العاصمة وجدها خاوية على عروشها المحلات مغلقة و كذا المطاعم و حتى النقل كان مفقودا لدرجة أنه جاءني في المساء ساخطا على العاصمة و أهلها ،

لقطة من مباراة الجزائر- المانيا- جوان 1982


ابتسمت و قلت له يا أخي يا جمال هذا يوم مباراة الجزائر مع ألمانيا ، فقد فازت الجزائر يومها بــ(02- مقابل- 01)و صادف  جمال عند رجوعه إلى الحي الشباب يرقصون و يهللون فقد انتهت المباراة بنصر مؤزر للجزائر ، فاستغرب جمال من سلوكيات الشباب الطلبة  التي لم نكن متعودين عليها في مدينتنا الأغواط ،و قال لي : أكُلُ هذا الصخب و الضجيج  و الرقص من  أجل كرة القدم ..البلاد (يقصد العاصمة)ماتت تماما و ضاعت مصالح الناس من أجل هذه الكرة ، ثم استدار إلي وقال لماذا لم تفعل انت مثلهم؟

فقلت يا جمال :انا و أنت لسنا ممن يتعلق بكرة القدم و ما تعودنا على ذلك و جيلنا كله لا يأبه بها لكننا لا نعاتب هؤلاء الشباب فإنها الجزائر في المونديال و لأول مرة و مع من؟ مع المانيا..

فلم يقتنع و اصر رحمه الله على رفضه لتعلق الشباب بالكرة كل هذا التعلق و كان يومها شديد الضيق من هذه المظاهر و كان هذا ديدنه عندما يشعر أنه على حق.

جامعة هواري بومدين- باب الزوار - الجزائر

ولأخفف عنه قليلا قلت له يا أخي يا جمال غدا سيكون آخر امتحان  لي و إن شاء الله سافرغ منه  في الفترة الصباحية ، و بعد أدائنا لصلاة الظهر سوف ترافقني في رحلة إلى مدينة البليدة حيث سنزور بعض الأقارب و الإخوان ،و سنسافر على متن القطار ، فتهلل وجهه و علته ابتسامة عريضة و قال لي بالعامية(قل لي هكذا) و فعلا في أمسية اليوم الموالي ذهبنا معا على متن القطار إلى مدينة البليدة وكم أعجبته الرحلة و كذا مدينة البليدة و مساجدها و كان يومها أعظم مساجدها
مسجد" الكوثر" و كان حديث البناء بطراز إسلامي عريق نال أعجابه كثيرا و سر جمال ايَّما سرور.

مسجد الكوثر- تحفة مدينة الورود البليدة

بعد سنة من هذه الزيارة نال جمال شهادة البكالوريا شعبة رياضيات و التحق بالمركز الجامعي تيارت و لم يطب له المقام و لا الشعبة العلمية التي اختارها حسب تخصصه رياضيات فقد كان هواه مع الإسلاميات فلم يلبث أن انتقل رحمه الله إلى العاصمة ليسجل في اختصاص شريعة و انتسب إلى كلية أصول الدين ليتخرج بعد اربع سنوات أستاذا لمادة العلوم الإسلامية بثانويات مدينة الأغواط.

في الفترة التي انتقل فيها  إلى الجامعة كنت قد التحقت   بالخدمة العسكرية و استمرت المراسلات بيننا ، و طفق يتغنى بالمرحلة الجامعية و يكلمني عن الجامعة و عن أجوائها الجديدة و حياته الجديدة و مشاقها و حُلوها و مرَّها و كان في أتم السعادة ، و كان يقول لي هذا كله في المراسلات  التي بيننا و ايامها كان ساعي البريد لا يخطئ، فيكتب جمال لي قائلا:  لقد كنت تحدثني يا جمال عنها و لم أكن استوعب الكثير مما تقول و هأنذا أعايشها بنفسي إن الجامعة فعلا مدرسة جديدة كما كنت تحدثني و تُرى كيف أنت اليوم في الخدمة العسكرية..؟

الجامعة المركزية- وسط العاصمة - الجزائر

فكنت أراسله قائلا يا جمال كنت أحدثك عن الجامعة كتجربة حديثة
و جميلة في حياتي و اليوم أعايش تجربة جديدة و عوالم أخرى 
و مدرسة من طراز آخر، فكان يرد علي قائلا : 
لعل الجامعة هي أعظم مدرسة ، فكنت أقول له: لو يكتب الله لك دخول العسكرية فسوف تغير رأيك ، و يدور بيننا جدال فلسفي يستعرض كل واحد منا تجربته و خبراته في الحياة الجديدة  وربما ننتصر لرأينا و هكذا مرحلة الشباب.


كانت رسائله (رحمه الله) تواسيني في غربتي و بُعدي عن بلدتي و الأهل و كانت تغذيني بما فيها من علم و أدب و نصائح دينية جمة خاصةو قد اشتد عوده و نضجت خبرته و استقام لسانه و استوى قلمه فكانت تلك الرسائل بلسما يداوي روحي و جراحي ..

عندما أتذكره رحمه الله أتخيل طيفه و ظله و ابتسامته و شهامته ، أتخيل قامته المديدة و جرأته فقد كان رحمه الله رغم صغر سنه يناقش الفقهاء و أهل العلم بل و يعاتب بعضهم و أذكر حادثة طريفة :
 يوم كنا نتذاكر في مسجد "الخليفة" و نتصفح كُتبا إسلامية فوجدنا  على صفحات أكثرها  كتابة بقلم الرصاص  على هوامش الصفحات ، و هي عبارة عن شروح لبعض الألفاظ و المعاني التي أغْلق معناها فكان صاحب التهميش(و هو رجل علم فقيه) يجتهد في شرح مسألة مغلقة أو يختلط على القارئ فهمها ، و قد أكثر صاحب الشروح من هذا و أسهب..


فعاب عليه جمال هذا السلوك وقال لا ينبغي أن يفعل وسأكلمه في الموضوع فقلت دع الرجل فقد فعل خيرا و لعله اهتدى إلى هذه الطريقة ليسهل على القارئ ، فقال رحمه لكنه  لا يكتفي بالشروح بل يضيف عليها بعض الآراء التي تميل إلى فئة دون أخرى، ولذا سأنبهه فلعه لم ينتبه إلى هذا و قد يثير حوله الانتقادات و هو رجل علم صالح.

و هكذا كان جمال رحمه الله.

رحمة الله عليه اختطفه المنون من بيننا بعد مرض عضال و هو في ريعان الشباب و اكتمال الرجولة في سنة 2008 رحمه الله رحمة  واسعة.
أعذرني أخي جمال لم أكن لأكتب لك ترجمة و لا سيرة حياتك العلمية، بل كتبت عن  لحظات "فلاشية" سريعة  عشناها معا ، و كتبتها مما بقي محفورا في ذاكرتي من لحظات جميلة حييناها في كنف العلم و التذاكر ، و ليست كل اللحظات و لا كل الوقت الذي عايشناه معا لأن ذاك لا تكفيه المجلدات بل هو غيض من فيض و ومضة من حياة.

أخوك الفقير إلى الله تعالى جمال بن السايح أبو أنفال
24-03-2019/17رجب 1440



Share:

نجوم



Al_Ihtiram
Image جمال

اليومية

Imagedjamal
Image and video hosting by TinyPic

يمكنك تغيير البلد و المدينة مباشرة بتحريك المصعد



Image and video hosting by TinyPic الأغواط

مدينة الأغواط

الساعة و التاريخ بالجزائر

مرحبا

مرحبا

وصف المدونة

مدونة تهتم بالفكر التربوي، بالإبداع التربوي و الإداري ، بالشخصيات التربوية، بأسرار التفوق ، و النجاح، ، بالفيديو التربوي، و بالصورة التربوية.

جديد/مدونة الدعاء الجميل إضغط على الصورة

الدعاء الجميل
تحويل التاريخ الميلادي إلى الهجري و العكس

مدونة كتب تهمك

الدعاء الجميل

مكتبة الدكتور الصلابي/اضغط على الصورة

أحدث المواضيع

الاكثر قراءة