أنور الجندي..راهب الثقافة و الفكر
منقول بتصرف عن فضيلة الدكتور العلامة: د. يوسف القرضاوي
الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
علمت أن الكاتب الإسلامي المرموق الاستاذ أنور الجندي قد وافاه الأجل المحتوم وانتقل إلى جوار ربه منذ يوم الاثنين 28 يناير 2002م، بلغني ذلك أحد اخواني فقلتُ: يا سبحان الله، يموت مثل هذا الكاتب الكبير المعروف بغزارة الإنتاج وبالتفرغ الكامل للكتابة والعلم، والذي سخر قلمه لخدمة الاسلام وثقافته وحضارته ودعوته وأمته أكثر من نصف قرن، ولا يعرف موته إلا بعد عدة أيام، لا تكتب عنه صحيفة، ولا تتحدث عنه إذاعة، ولا يعرف به تلفاز!!
كأن الرجل لم يخلف وراءه ثروة طائلة من الكتب والموسوعات في مختلف آفاق الثقافة العربية والإسلامية، وقد كان عضوا عاملا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، ومن أوائل الاعضاء في نقابة الصحفيين، وقد حصل على جائزة الدولة التقديرية سنة 1960م.
منذ كنت طالبا في القسم الثانوي بالأزهر، وأنا أقرأ لأنور الجندي في القضايا الإسلامية المختلفة، ومن أوائل ما قرأتُ له: كتاب بعنوان "كفاح الذبيحين فلسطين والمغرب"،...
وكان من كتبه الأولى "اخرجوا من بلادنا"، يخاطب الإنجليز المحتلين، وقد علمت ان الكتاب كان سببا في سجنه واعتقاله لعدة أيام في عهد الملك فاروق، ثم أفرج عنه.
وللأستاذ أنور الجندي كتب كثيرة تقارب المائة كتاب، بعضها موسوعات، مثل كتابه "مقدمات المناهج والعلوم"، الذي نشرته "دار الانصار" بالقاهرة بلغت مجلداته عشرة من القطع الكبير. وموسوعته "في دائرة الضوء" قالوا: إنها من خمسين جزءا. ومن أهم كتبه: "أسلمة المعرفة"، "نقد مناهج الغرب"، "أخطاء المنهج الغربي الوافد"، "الضربات التي وجهت للأمة الاسلامية"، "اليقظة الاسلامية في مواجهة الاستعمار"، "تاريخ الصحافة الإسلامية"، وكان آخر ما نشره كتاب "نجم الاسلام لا يزال يصعد".
كان الاستاذ أنور الجندي يميل في كتاباته إلى التسهيل والتبسيط، وتقريب الثقافة العامة لجمهور المتعاملين دون تقعر أو تفيهق أو جنوح إلى الإغراب والتعقيد، فكان أسلوبه سهلا واضحا مشرقا.
...كان أكثر ما يكتبه للشباب، حتى إنه حين كتب موسوعته الاسلامية التي سماها "معلمة الاسلام" وجمع فيها (99) تسعة وتسعين مصطلحا في مختلف أبواب الثقافة والحضارة والعلوم والفنون والآداب والشرائع، جعل عنوان مقدمة هذه المعلمة "إلى شباب الاسلام"، وقال في بدايتها: "الحديث في هذه المعلمة موجه إلى شباب الاسلام والعرب، فهم عُدة الوطن الكبير، وجيل الغد الحافل بمسؤولياته وتبعاته، وهم الذين سوف يحملون أمانة الدفاع عن هذه العقيدة في مواجهة الأخطار التي تحيط بها من كل جانب، فمن حقِّهم على جيلنا أن يقدم لهم خلاصة ما وصل إليه من فكر وتجربة .. وأن نعبِّد لهم الطريق إلى الغاية المرتجاة .. هذه مسؤوليتنا إزاءهم، فإذا لم نقم بها كنا آثمين، وكان علينا تبعة التقصير" اهـ.
وأعتقد أن كتبه قد آتت أكلها في تثقيف الشباب المسلم، وتحصينهم من الهجمات الثقافية الغربية المادية والعلمانية التي لا ترضى إلا بان تقتلعهم من جذورهم وأصالتهم.
كان الأستاذ الجندي زاهدا في الدنيا وزخرفها، قانعا بالقليل من الرزق، راضيا بما قسم الله له، لا يطمع أن يكون له قصر ولا سيارة، حسبه أن يعيش مكتفيا مستورا، وكان بهذا من أغنى الناس، كان كما قال علي كرم الله وجهه:
يعز غني النفس إن قل ماله * ويغنى غني المال وهو ذليل
...حكى الأخ الأديب الداعية الشيخ عبد السلام البسيوني أنه ذهب الى القاهرة مع فريق من تلفزيون قطر، ليجري حوارا مع عدد من العلماء والدعاة، كان الأستاذ أنور منهم أو في طليعتهم، ولم يجد في منزله الذي يسكنه مكانا يصلح للتصوير فيه فقد كان في حي شعبي مليء بالضجيج، وكان المنزل ضيقا مشغولا بالكتب في كل مكان، فاقترح عليه أن يجري الحوار معه في الفندق، وبعد أن انتهى الحوار تقدَّم مدير الإنتاج بمبلغ من المال يقول له: نرجو يا أستاذ أن تقبل هذا المبلغ الرمزي مكافأة منا، وإن كان دون ما تستحق. فاذا بالرجل يرفض رفضا حاسما ويقول: أنا قابلتكم، وليس في نيتي أن آخذ مكافأة، ولست مستعدا أن أغيِّر نيتي، ولم أقدم شيئا يستحق المكافأة! قالوا له: هذا ليس من جيوبنا، إنه من الدولة. وأصر الرجل على موقفه، وأبى أن يأخذ فلسا!
...كان رجلا ربانيا، ومن دلائل ربانيته ما ذكرته ابنته عنه: أنه كان يحب أن يكون متوضئا دائما، فيأكل وهو متوضئ، ويكتب وهو متوضئ، وكان ينام بعد العشاء، ثم يستيقظ قبل الفجر ليصلي التهجد، ويصلي الفجر، ثم ينام ساعتين بعد الفجر، ويقوم ليقضي بعض حاجات البيت بنفسه. كان الأستاذ أنور الجندي يخدم الجيران، ويملأ لهم "جرادل" الماء إذا انقطع الماء، ويضعها أمام شققهم. وكان له من اسمه نصيب أي نصيب، فكانت حياته وعطاؤه وإنتاجه تدور حول محورين: النور - أو التنوير - والجندية. فقد ظلَّ منذ أمسك بالقلم يحمل مشعل "النور" أو "التنوير" للأمة، وأنا اقصد هنا: التنوير الحقيقي لا "التزوير"، الذي يسمونه "التنوير". فالتنوير الحقيقي هو الذي يرد الامة الى النور الحقِّ، الذي هو أصل كل نور، وهو نور الله تعالى، ممد الكون كله بالنور، وممد قلوب المؤمنين بالنور: نور الفطرة والعقل، ونور الإيمان والوحي {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (النور:35).
وكان أهم معالم هذا التنوير: مقاومة التغريب والغزو الفكري الذي يسلخ الأمة من جلدها، ويحاول تغيير وجهتها، وتبديل هويتها، والغاء صبغتها الربانية، {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} (البقرة:138)، وكان واقفا بالمرصاد لكل دعاة التغريب، يكشف زيفهم، ويهتك سترهم - وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا - حتى ردَّ على طه حسين، وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي.
قال الجندي يوما عن نفسه: أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله، ما زلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة، حيث أعد لها الدفوع، وأقدم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى، وعهد على بيع النفس لله. والجنة - سلعة الله الغالية - هي الثمن لهذا التكليف، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة:111)
كان النور والتنوير غايته ورسالته، وكانت الجندية وظيفته ووسيلته. لقد عاش في هذه الحياة "جنديا" لفكرته ورسالته، فلم يكن جندي منفعة وغنيمة، بل كان جندي عقيدة وفكرة. لم يجر خلف بريق الشهرة، ولم يسع لكسب المال والثروة، أو الجاه والمنزلة، وإنما كان أكبر همه أن يعمل في هدوء، وأن ينتج في صمت، وألا يبحث عن الضجيج والفرقعات، تاركا هذه لمَن يريدونها ويلهثون وراءها....
كتب الاستاذ أنور الجندي في فترة المحنة في عهد عبد الناصر في بعض المجلات غير الاسلامية تراجم لقادة التحرر والثورة من ذوي التوجه الديني، أمثال عمر المختار في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وذلك في مجلة "المجتمع العربي" المصرية في فترة الخمسينيات والستينيات.
ويقول عن هذه الفترة : "لقد كان إيماني أن يكون هناك صوت متصل - وإن لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي - ليقول كلمة الاسلام- ولو تحت أي اسم آخر - ولم يكن مطلوبا من أصحاب الدعوات أن يصمتوا جميعا وراء الأسوار".
في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين سعدت بلقاء الأستاذ الجندي في الجزائر العاصمة في أحد ملتقيات الفكر الاسلامي، وهي أول مرة ألقاه وجها لوجه ...وقد أرسلنا منظمو الملتقى إلى أحد المساجد في ضواحي العاصمة هو وأنا، وأردت أن أقدمه ليتحدث أولا، فأبى بشدة، وألقيتُ كلمتي ثم قدمته للناس بما يليق به، فسرَّ بذلك سرورا بالغا.
وبعد حديثه في هذه الضاحية تحدثتُ معه: لماذا لا يظهر للناس، ويتحدث اليهم بما أفاء الله عليه من علم وثقافة؟ فقال: أنا رجل صنعتي القلم، ولا أحسن الخطابة والحديث إلى الناس، فأنا لم أتعود مواجهة الجمهور، وإنما عشت أواجه الكتب والمكتبة. وليس كل الناس مثلك ومثل الشيخ الغزالي، ممن آتاهم الله موهبة الكتابة وموهبة الخطابة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فقلتُ له:
ولكن من حق جمهور المسلمين أن ينتفعوا بثمرات قلمك، وقراءاتك المتنوعة، فتضيف إليهم جديدا وتعطيهم مزيدا. فقال: كلٌّ ميسَّر لما خلق له.
مجلة المنار الاماراتية عدد أكتوبر 1989 |
مقال للأستاذ أنور الجندي في عدد أكتوبر 1989 |
... عاش الأستاذ الجندي سنواته الاخيرة جليس بيته، وطريح فراشه، يشكو بثه وحزنه إلى الله كما شكا يعقوب عليه السلام، يشكو من سقم جسمه، ويشكو أكثر من صنيع قومه معه، الذين كثيرا ما قدَّموا النكرات، ومنحوا العطايا للإمَّعات، كما يشكو من إعراض إخوانه الذين نسوه في ساعة العسرة وأيام الأزمة والشدة، والذين حرم ودهم وبرَّهم أحوج ما كان إليه، مردِّدا قول علي رضي الله عنه، فيما نسب إليه من شعر:
ولا خير في ودِّ امرئ متلـــــــوِّن *** اذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد اذا استغنيتَ عن أخذ ماله *** وعند زوال المال عنك بخيـــــل
فما أكثر الإخوان حين تعدُّهـــم **** ولكنهم في النائبــــات قليــل
....رحم الله أنور الجندي، وغفر له، وتقبله في الصالحين، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي به العلماء والدعاة الصادقين، الذين أخلصهم الله لدينه، وأخلصوا دينهم لله.
مفكرون من مصر الأستاذ أنور الجندي