جدتي خديجة رحمها
الله
كنت قد كتبت عن جدي الحاج محمد بن السايح رحمه الله ، ووددت ان أكتب عن جدتي
خديجة خميلي رحمة الله عليها.
في الحقيقة ما سأخطه
ليس ترجمة و لا تاريخا لحياة جدتي ،لكنني
ساكتب عن لحظات قضاها طفل صغير بريء مع
جدته التي لم يكتب لها ان تعيش طويلا، و ما تحفظه الذاكرة لطفل صغير عاش
معها على اكثر تقدير ثلاث
سنوات او اربع عندما بدأ يعقل و تمكنت ذاكرته من مسك بعض التفاصيل عن حياة جدة ملت
الحياة و غادرتنا على عجل في بداية الستينيات من عمرها رحمها الله، و كنت قد بدأت
اسجل مواقف لها و سلوكيات منذ ان بلغت الرابعة من سني . كانت الجدة في الماضي
عندنا تسمى (بالحَنَّةِ)بفتح الحاء و النون و كسر التاء، و واضح ان هذه التسمية
انبثقت من الحنان ، وبالفعل كانت
جدتي خديجة حنونة علينا رؤوفة بنا و كانت تكلمنا
دوما بصوت جميل لطيف
لا تهديد فيه و لا وعيد إلا في حالة أن أخطانا فكانت رحمها الله تفتح عينيها واسعتين و تحدق فينا بنظرة حادة فيكفينا
ذلك تهديدا و وعيدا ، فنرعوي و نحجم عن أفعالنا التي لا ترضاها..
ما سمعت جدتي تصرخ
يوما لا فينا و لا في والدتنا بل كانت تعيش معنا بهدوء تام ..
ما سجلته ذاكرتي عنها انها كانت ودودة حنونة
زوّارة لأقاربها تخرج في كل يوم لقضاء حوائج البيت إذ الوالد كان يعمل بعيدا في
الصحراء .
كما انها كانت
تساهم في حل مشكلات الجيران و تقضي حوائجهم بل و كانت تساهم في فك الخصومات
بينهم..
صحيح انها كانت دوما صموتة لا تكاد تسمع
صوتها قليلة الكلام و كأنها تحمل على كاهلها هموم السنوات الماضية أيام الاستعمار
حيث كانوا فقراء يعتمدون في عيشهم على ما تعمله أيديهم : و كم روت لي والدتي فضلها
الكبير عليها ،إذ علَّمتها جدتي طريقة حياكة
البرانيس
و( القشاشيب) و الزرابي بما يسمى عندنا بالعامية
و كانتا تقومان ببيع انتاجهما في السوق و بذا
توفران الفرنكات الفرنسية لقضاء الحوائج و التبضع و تقاومان شظف العيش و الفاقة و
هكذا كان كل الجزائريين إبان الاستدمار الفرنسي.
كانت حياة صعبة
بالفعل الاستعمار و الفقر، كم عانى
اجدادنا و آباؤنا نحمد الله تعالى اننا كبرنا في كنف الحرية و تنفسنا عبقها و عشنا
و تربينا في الأمن و الأمان رحم الله الشهداء.
زمن الاستدمار الفرنسي |
و من الأشياء التي لا تزال
عالقة بذاكرتي أنني كنت أحب جدتـــــي
و احب مجالستها فكانت
رحمها الله تعلمني أشياء حفظت بعضها و نسيت البعض الآخر كلها كانت نصائح حول المستقبل ، و كانت بين
الفينة و الأخرى تردد على مسامعي جملة لا
انساها ابدا إذ حفظتها ذاكرتي الصغيرة رغم عدم فهمي لها آذاك ، كانت تقول لي رحمها
الله (صندوق باجة خصاتو حاجة) طبعا هذا من الألغاز التي كانت تردد آنذاك و كانت
ترددها علي عدة مرات دون ان تطلب مني جوابا و لا
شرحا و لا كانت تشرح لي معناه..
و غيره من الألغاز الأخرى (خُب خُب إشوف الماء يُهرُبْ...راه راهْ يا مطْراه منصابو يتكل)...الخ...
و غيره من الألغاز الأخرى (خُب خُب إشوف الماء يُهرُبْ...راه راهْ يا مطْراه منصابو يتكل)...الخ...
ما كان يميز
كلامها وصاياها فقد كانت تكلمني عن الأخلاق الحسنة و كيف يكون الانسان محبوبا ،وعن العمل
و النشاط ،و كثيرا ما كانت تكلمني رحمها الله عن الموت(نعم عن الموت) بل كانت تسألني دوما : هل
ستزورني في قبري عند موتي؟ و كنت احتار في إجابتها و بعد إلحاحها كنت أقول لها نعم،
فكانت تبتسم، رغم انني لم اكن ادرك فعليا كُنهَ الموت و معناه ،و إنما هي كلمة مبهمة بالنسبة لي ارددها دون افهم معانيها..
كانت ترسم لي شكل القبر و تقول لي سيصنعون
لي قبرا مثل هذا، كانت رحمها الله وكأنها تعرف موعد لقائها بالله.
لم تمض على هذا
الكلام سنتان إلا و مرضت و لقيت فعلا ربَّها و هي لا تزال في بداية الستينيات(1967).
ومن الأمور التي لا تزال محفورة في ذهني
أنها علمتني و شجعتني رحمها على القيام بمهام الكبار و انا لا زلت ابن الخمس سنوات
فقد امرتني بعد تزويدي بالنصائح ان أذهب إلى مطحنة الحبوب لأقوم
بطحن
القمح (كان خبزنا كله من القمح)
و كانت المشكلة انني لم اقم بدفع عربة النقل اليدوية (الشريطة) في حياتي خاصة إذا كان بها ربع قنطار من القمح و كان ثقيلا على طفل في الخامسة من عمره ،لكنها قامت بموازنتها لأشعر بها خفيفة و زودتني بالنصائح و قالت لي إنك تعرف سياقتها و ستقوم بالمهمة على اكمل وجه لا تخف اذهب و تعلم.
و كانت المشكلة انني لم اقم بدفع عربة النقل اليدوية (الشريطة) في حياتي خاصة إذا كان بها ربع قنطار من القمح و كان ثقيلا على طفل في الخامسة من عمره ،لكنها قامت بموازنتها لأشعر بها خفيفة و زودتني بالنصائح و قالت لي إنك تعرف سياقتها و ستقوم بالمهمة على اكمل وجه لا تخف اذهب و تعلم.
و فعلا ذهبت إلى المطحنة (الرَحاَية)
بالدارجة و استقبلني صاحبها (سي حمزة) رحمه الله و بدأ بي لأنني صغير ثم قام بطحن
الزرع كله فصار دقيقا أملسا ،ثم أرجعه إلى الكيس مرة أخرى و وازنه منجديد في
العربة اليدوية و قال لي : اذهب رافقتك السلامة يا بني.
و كانت جدتي
تنتظرني على احر من الجمر و لما رأتني قد رجعت سالما و قد اديت المهمة فرحت بي
فرحا كبيرا و ضمتني إلى صدرها و قبلتني ثم اشبعتني إطراء و شكرا ، و ظلت تنوه بما عملت فترة من الزمن،
ولم تكن لدينا مثل اليوم الحلوى و الشكولاتة بل كلمات
شكر و إطراء كانت تغذينا
فتكفينا...و كانت تقول لأمي ألم اقل لك انه سيفعلها؟ تقصد أنني استطيع أن أذهب لطحن القمج و اعود بسلامة الله...
دخلت المدرسة بعد
اشهر (1965) من هذه الحادثة ،و مرت سنتان
و في بداية السنة الدراسية (1967) رحلت جدتي عن عالمنا إلى ربها و هي لم تتجاوز سن
الستين إلا بسنتين ..رحم الله جدتي خديجة رحمة واسعة و غفر لها و أسكنها الفردوس
الأعلى.
جمال بن السايح ابو أنفال
الأغواط في 29/12/2019