Image djamal_hikma1
BASMALA

والدتي حفظها الله




والدتي العزيزة زينب حفظها الله وبارك في عمرها



مقدمة

مهما حاولت الكتابة عن أمي و تعداد افضالها فسأقصر في حقها لا محالة و من يستطيع ردَّ جميلها ..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلي رسول الله فقال:
يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟. قال: أمك. قال: ثم من؟. قال أمك. قال: ثم من؟. قال: أمك. قال: ثم من؟. قال: أبوك.

متاعب التربية و التغذية:

تعبت أمهاتنا في الماضي فقد كانت امنا تحضر الطعام كله في البيت بوسائل بسيطة جدا ،فكانت تعتمد على جهدها و عضلاتها ليس مثل أيامنا حيث أصبحت الأدوات الكهربائية تحل محل الجهد العضلي..






فقد كانت أمي تهيئ القمح في البيت تصفيه من التراب و الشوائب العالقة به ، ثم تغسله بالماء ثم تنشره على بساط نظيف ليجف من الماء و بعد ذلك تضعه في أكياس نظيفة ثم ترسله إلى المطحنة  خارج البيت..








الكسكسي الجزاري(او الطِعام باللهجة المحلية) وقديما كان يصنع من دقيق القمح

أما ثيابنا فلم تكن لديها غسالة كهربائية او رقمية مثل اليوم بل فقط قصعة حديدية تملؤها بالماء و مسحوق صابون "أوموOMO" الذي تحول فيما بعد  إلى صابون "إزيسISIS أو صابون الحجرة(الطرف) و كنا نسميه صابون (الزرافة GIRAFE)..




و كم كان )الأومو) حارقا لليدين فكنا نرى تشقق يديها من طول الفرك للملابس و تأثير الصابون الكيميائي الصنع ،و كذا تأثير البرد إذ لم تكن افنيتنا مَسقُوفة بل مفتوحة للطبيعة قرّها و حرّها.



و في عموم البيوتات لم نكن نملك مثل اليوم حمامات خاصة بل عندما نريد الاستحمام تقوم الأم بتسخين الماء على الموقد و تضع لنا القصعة الحديدية التي ندخل فيها ثم نصب الماء على أجسادنا  و تتكفل بعد ذلك بنقل المياه المتسخة في دلو لتدلقها في مجرى مياه الصّرف  الصحي الموجود في كل بيت ..

هكذا كانت الحياة كلها نصَب و ضيق عيش ، لذا مهما حاولنا أن نرد جميلها فلن نستطيع و إنما نطمع في رضاها و دعوات الخير منها.

أخذت لي هذه الصورة مع والدتي عام 2020/1441


لقد كانت امهاتنا يقمن بنسج القشب(القشاشيب) لكل طفل ذكر ليحتمي من البرد القارس، فلم تكن لدينا المعاطف ،فقد كنا نراها لباسا (للرّومي: أي المستعمر) كما كنا نعزف عن التشبه به في لباسه. 

حياكة الزرابي بواسطة "المنسج" التقليدي






كما أن "القشابية "يمكنها ان تدوم لسنوات، و لا نستبدلها إلا إذا ظهر قِصرُها بعد أن ينمو جسمنا في الطول فتكون بعد ثلاثة او أربع سنوات قد بدأت تبلْى ، و كم كنت اشعر بنشوة كبيرة و انا ألبس  لأول مرة  "قشابية" جديدة، 
و كم كنت أحب أن اشتم رائحتها إذ كانت تُصنَع من صوف الغنم بعد غسله و تنظيفه  و نبشه و تقطيعه ،ثم غزله و تلوينه ثم نسجه لتكون المرحلة الأخيرة هي  خياطته  عند الخياط المتخصص و يتكفل بهذه المهمة إما الجدة أو الأب إذا كان موجودا بالبيت...

حنان الأم

و الأم لفرط حنانها ترى أولادها كلهم في مرتبة واحدة  مُحسنُهم و مُسيئُهم.. إنه قلب الأم الرؤوم العطوف ،لا يعرف فرقا بين أبنائها و كذا كانت والدتي بارك الله لنا في عمرها..

و لقد سئلت أم عربية ذات يوم: أي أولادك أحب إليك ؟فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها(تعني متساوون)،ثم  فقالت : الصغير حتى يكبُر , والمريض حتى يُشْفى , والمُسَافر حتى يَعودَ

فأمي زينب لسان حالها يردد المعاني نفسها..


علاقتي بوالدتي:

لقد نَمَت و ترعرت علاقتي بأمي منذ نعومة أظفاري و مذ وعيت على نفسي وجدتني بالقرب منها  لا افارقها تصحبني معها إلى كل مكان تذهب إليه في زياراتها العائلية و في غُدوها إلى المستشفى للتداوي وقد عانت من ألم الأسنان  وقتها ... إن هذا القرب الدائم منها جعلني احظى بكثير من التعليم و التربية منها إذ الوالد في المراحل الأولى من نشأتي كان غائبا يعمل في الصحراء الجزائرية..


أساليب التربية  عند أمي:

و  رغم أميتها فقد علَّمتني أصول  الأدب و الخلق الاجتماعين ،علَّمتني كيف أحترم الكبار و كيف أرحم الصغار ، علمتني صلة الرحم و كيف ازور جدي لأبي و عمّاتي و خالتي ، علَّمتني بلسان حالها الذي لا يملك فصاحة الأدباء  بل صدق اللهجة و  بوجهها الصبوح بابتسامته اللطيفة..

كنت منذ صغري أحب ان أسمع قصصا كانت ترويها لي تنطوي على عبر و أمثال و التي كانت دائما ترددها على مسامعنا و من خلال ذلك كنت أتعلم  الكثير.



و في بعض الأحيان كانت تروي لي قصصا عن فلان و فلان و تقول لي اتعرف لماذا صار هذا محبوبا؟ : لأنه يواظب على الصلاة !، و كثيرا ما كانت تستشهد بأحد الأئمة(الحاج الطيب حيرش رحمه الله) البارزين في مدينتنا الأغواط و  الذي كانت تكنُّ له احتراما كبيرا و تقول لي عندما نشاهده مارًا في الشارع انظر إليه :( إن النور يسطع من وجهه)  اتعرف لماذا ؟ لأنه يصلي!..

  - أَوَ تعرف لماذا صار ذاك إنسانا محترما؟ : لأنه يحب العلم..
  - أتعرف لماذا صار هذا مُحدثا بارعا لأنه لا يرفع صوته..

هكذا علمتني بالقدوة حيث كنت عندما أخلو إلى نفسي و أتمثلهم امامي و احلم ان أصير مثلهم...

زرعت فيَ حب العلم:


ربما يتصور البعض ان أمي كانت تعطيني المحاضرات الطويلة في طلب العلم و أهمية  العلم و مكانة أهل العلم..

يخطئ من يتخيل  هذا الكلام ..إن والدتي امرأة أمية  لم تتردد  على المدرسة البتة ،بسبب يُتْمها (إذ فقدت والدتها مبكرا) و لأنها نشأت في البادية بعيدا عن المدينة.. و كذا بسبب الاستعمار الذي كان يحرم الدراسة على الجزائريين،كما لا ننسى أن عقلية الجزائري البدائية كانت تأنف من خروج البنت و لو لطلب العلم(طبعا هي جريمة لا تغتفر) ، لكن ماذا نفعل إذا كان الجهل قد خيم على اجدادنا ردحا من الزمن، كما خيم الاستدمار...

 مع ذلك فقد تكفلت مدرسة الحياة بتعليمها من خلال الملاحظة و الاختلاط الاجتماعي التي يحمل موروثا للثقافة الشعبية الدينية المنطوية على الثقافتين الأدبية و الأخلاقية..و الاحتكاك مع الكبار كان بمثابة المدرسية حتى و إن كانت ثقافة  شفوية و في شؤون الحياة المنزلية ثقافة تطبيقية ، يتعلم الفرد فيها بالتقليد و المحاكاة و القدوة.

فبماذا كانت تعلمني ؟

لقد غرست فيَ حب الكتاب ،فلطالما ردَّدت لي كلمة سحرية لا يزال صداها يتردد في قلبي و عقلي ، كانت تقول لي:" إن الكتاب هو الحَبيبُ الصَّامِتُ"..



لقد تركت هاتين الكلمتين أثرا كبيرا في نفسي خاصة و أنها مؤلفة من كلمتين محببتين إلى القلب و  النفس:
كلمة (الحبيب) التي تعبر عن كل المعاني السحرية  الجميلة والأثيرة إلى النفس و تنطوي على معاني  كثيرة أذكر منها : الحب و المودة و الإخلاص و  الصدق والاهتمام و الصداقة الحقة ..

أما كلمة الصامت : أي الذي لا يزعج لا تسمع له صوتا خشنا مدويا مقلقا و هي سمة الانسان المحبب الوقور ...
فكل هذه المعاني كانت تتمثل أمامي و انا صغير السّن في المراحل الابتدائية و قد بدأ وعيي و إدراكي ينموان لأفهم معاني سامقة جميلة مثل هاتين الكلمتين المحببتين إلى نفسي و روحي، و المستحوذتين على جوانحها و تملآن اقطارها ،فكنت اشعر بالنشوة عندما امسك كتاب القراءة المسمى "حدائق القراءة" و اتصفحه بلطف و حب شاعرا انه صديقي الصّامت و بذا عشقت الكتاب و القراءة..

فضلا عن ذلك فقد كنت لا اعرف ماهية القراءة الصامتة ،خاصة و أنا صبي في المراحل الابتدائية الأولى فكانت تنبهني قائلة:
 لماذا ترفع صوتك كثيرا ؟

فأجيبها يا أمي بهذا استطيع ان أحفظ دروسي..!

فكانت تجيبني يا ولدي لقد كنت اشاهد الشهيد الحبيب شهرة رحمه الله يقرأ بعينيه فقط في صمت..و الشهيد رحمه الله وقد كان زوج عمّتي ،و معلما بالمدرسة الابتدائية التي تسمى اليوم باسمه.

الشهيد الحبيب شهرة(الصورة لونت حدثا فقد كانت بالأبيض و السود)

و لم أكن افهم كنه القراءة الصامتة و لم اكن  استطيعُها في ذلك الوقت ..طبعا تعلمتها بعدما كبرت.
لقد كانت تشجعني على العلم ، و على الصلاة فقد بدأتها و الحمد لله في سن مبكرة ،و كم فرحَت بذلك و كانت تحكي لإخوتي الكبار و اقاربي عن حرصي على أداء الصلاة في وقتها ..

الوقت و الساعة الميكانيكية:

الشيء الذي اعرفه عنها انها كانت تهتم بالوقت كثيرا و هي من علمتني قواعد الساعة (التي كانت ميكانيكية) و قد حفظتها في اقل من عشر دقائق ، بعدما رددتها امامي مرتين فقط ، ثم طلبت مني ان اعيد ما تعلمته ، و كم كان فرحتها  كبيرة عندما وجدتني أتقن معرفة الساعة و كنت يومها لم أدخل المدرسة..

منبه ساعة ميكانيكية

فلقد اعجبها فضولي و حبي لتعلم الأشياء التي كانت في زماننا حكرا على الكبار خاصة في البيوتات التي مثلنا حيث نشأت في بيت لا يوجد به مكتبة و لا كتاب عدا مصحف القرآن الكريم ذي اللون الأصفر  المكتوب بالخط المغاربي



هذا المصحف بخطه المغاربي الجميل المتعانق الحروف كان يمثل بالنسبة لي طلاسم لا اقدر على فكَها لولا أخي عبد الحميد رحمه الله ،
صفحتان من المصحف الجزائري بالخط المغربي

أخي عبد الحميد رحمه الله

 الذي كان معلمي الأول في القرآن الكريم و الذي  علمني القراءة  من المصحف و شجعني على حفظ السور الأولى منه ..رحمه الله رحمة واسعة..

أمي و اعترافها بالفضل:

كما أن أمي لا تزال إلى اليوم تعترف بفضل جدتي لأبي خديجة عليها  و التي كانت تعلمها الكثير من الأشياء خاصة  نسج الحرير فكانتا تصنعان اللّباس التقليدي (القشابية و البرنوس الحريريان)






و تتكفل جدتي لأبي  ببيعه في السوق لسد حاجيات البيت  و الأسرة ،أثناء غياب والدي في الصحراء.
أمي لا تنسى من أحسن إليها
كما ان أمي لا تزال تحمل كل التقدير و لا تنسى و لم تكن لتنسى ابدا فضل عمّتي "عائشة" رحمها الله رحمة واسعة ،
عمتي عائشة (عيشة) رحمها الله

من اليمين -  عمتي عائشة (رحمها الله)  ثمّ والتي زينب قوميري حفظها الله
التي تكفلت بها  في شبابها  كإحدى بناتها و لم تبخل عليها بأي مساعدة أو مؤازرة او تعليم ، بل و لقد تعدى ذلك الحنان و الرعاية إلينا نحن ابناءها جميعا فقد كانت رحمها الله (أي عمتي)نعم العمّة ُ الصالحة ، بجودها و كرمها و حُنوِها  تُحبنا و نُحبها ، فقد كنت أشعر  عندما أزورها أنني في بيتنا، و فعلا كان  ولا يزال شعور صادق لأننا تربينا في هذا البيت الكائن بحي "الباطن" و الذي لا يزال بحمد الله عامرا و قائما بأنفاسها و طيبة بناتها  و و كرمهن و  حسن أخلاقهن.

لقد كانت أمِّي دوما قريبة منَّا جميعا عينها علَينا و قلبُها معنا إلى اليوم الذي اكتب فيه هذه الكلمات و هي قد تجاوزت الثمانين بارك الله في عمرها و حفظها من كل سوء، قلت إلى حد الساعة لا يقر لها جفنا إذا سمعت احدنا مريضا او طال غيابه ..إنه قلب الأم الذي لا يعرف إلا المحبَّة و الرَّحمة و دُعاء الخير...

اعتذار: 

عفوا أعتذر لك يا أمي أكيد أنني لن اوفيك حقك  بهذه الكلمات المستعجلات ،فمهما تكلمت عنك و عن افضالك فلن اسطيع أن اوفيََك حقك مهما كتبت او قلت أو أعطيت أو أسديت..و لن  يوفيًك احد مهما كان  حقك إلا الله  سبحان و تعالى الذي سيجازيك على تربيتك و على صبرك و على أمومتك..
  أسال الله القدير أن يديم رضاك عنا ..اللهم آمين..

ابنك جمال أبو أنفال

الأغواط في :02شعبان1441
                 2020/03/26


Share:

نجوم



Al_Ihtiram
Image جمال

اليومية

Imagedjamal
Image and video hosting by TinyPic

يمكنك تغيير البلد و المدينة مباشرة بتحريك المصعد



Image and video hosting by TinyPic الأغواط

مدينة الأغواط

الساعة و التاريخ بالجزائر

مرحبا

مرحبا

وصف المدونة

مدونة تهتم بالفكر التربوي، بالإبداع التربوي و الإداري ، بالشخصيات التربوية، بأسرار التفوق ، و النجاح، ، بالفيديو التربوي، و بالصورة التربوية.

جديد/مدونة الدعاء الجميل إضغط على الصورة

الدعاء الجميل
تحويل التاريخ الميلادي إلى الهجري و العكس

مدونة كتب تهمك

الدعاء الجميل

مكتبة الدكتور الصلابي/اضغط على الصورة

أحدث المواضيع

الاكثر قراءة